بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
الأسبوع الأخير
وثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت عائشة يمشي بين الفضل بن عباس وعلى بن أبي طالب، عاصباً رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضي عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.
قبل الوفاة بخمسة أيام
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه في مِخَضَبٍ ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: (حسبكم، حسبكم).
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، إلي)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وفي رواية: (قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد).
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: (من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، ثم أوصي بالأنصار قائلاً:
(أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، وفي رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).
ثم قال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
قبل أربعة أيام
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني).
وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصي بإخراج اليهود والنصاري والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصَلَّى الناس؟) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا لي ماء في المِخْضَب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الإثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات ؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس ، فأبي وقال: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
قبل ثلاثة أيام
قال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول: (ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظـن بالله).
قبل يوم أو يومين
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال: (أجلساني إلى جنبه)، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير.
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن ، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.